Canalblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

وجود الغير في فلسفة ديكارت، هو وجود غير ضروري بالنسبة لوجود الأنا ووعيه بذاته، إنه مجرد وجود افتراضي قابل للشك، محتمل وجائز.

3 octobre 2007

descartes ديكارت

Descartes2

رينيه ديكارت1596- 1650

(سيرته ، مقالة في المنهج ، تاملات في الفلسفة الاولى )

ولد ديكارت (René Descartes) سنة 1596 في بلدة "لاهى" من بلدان مقاطعة "الثورين" قرب نهر "الكروز" بفرنسا. وينتسب ديكارت إلى أسرة من صغار الأشراف الفرنسيين، كان أبوه مستشارا ببرلمان "بريتاني"، أما أمه فماتت بعد مولده بثلاثة عشر شهرا.

تلقى ديكارت علومه الأولى في مدرسة "لافليش" إحدى مدارس اليسوعيين، فبقي يتعلم بها ثماني سنوات، تعلم فيها العلوم والفلسفة، وقضى السنوات الخمس الأولى في دراسة اللغات القديمة، والثلاثة الأخيرة في دراسة المنطق والأخلاق والرياضيات والطبيعيات والميتافيزيقيا.

قصد ديكارت هولندا ليتعلم صنعة الحرب على يد اشهر جندي في أوروبا موريس دوناسو وكان قد سبق ديكارت إلى البلاد الهولندية كثيرون من أشراف الفرنسيين، أرادوا مثله ان يخدموا تحت إمرة ذلك الجندي العظيم الذي حقق الكثير من الانتصارات. توجه ديكارت بعد ذلك إلى "بريدا" في هولندا فلقي هناك طبيبا مثقفا ذا علم واسع بالرياضة والطبيعة اسمه اسحق بيكمان فصادقه.

وفي ليلة 10 نوفمبر سنة 1619 تم الاكتشاف الديكارتي العظيم والذي يذهب الفيلسوف فيه إلى ان مجموع العلوم واحدة مؤتلفة في الحكمة، أي في المعرفة التي نستقيها من أنفسنا.

غادر ديكارت بلدة نويبرج على نهر الدانوب حيث تم هذا الاكتشاف وقضى السنوات التسع التالية متنقلا في البلاد، متفرجا على مسرح الدنيا. وفي سنة 1628/ 1629 كتب رسالة صغيرة في الميتافيزيقيا موضوعها "وجود الله ووجود الروح" والقصد منها ان تبسط شيئا من قواعد الطبيعيات الديكارتية. وهذا يدلنا على ان ديكارت كان يشتغل منذ سنة 1629 بتحرير كتاب "التأملات الفلسفية" الذي لم يظهر إلا في عام 1641. نشر في عام 1637 ثلاث رسائل هي "البصريات" "والآثار العلوية" و"الهندسة" وصدرها جميعها بمقدمة هي "المقال في المنهج"، حاول ان يبين فيه انه استعمل منهجا آخر غير المنهج الشائع وان هذا المنهج ليس أسوأها ولا أقبحها. ونشر ديكارت في سنة 1641 كتاب "تأملات في الفلسفة الأولى" باللغة اللاتينية وفيه يبرهن على وجود الله وخلود الروح. ولقد كانت آخر مؤلفات الفيلسوف "رسالة في أهواء النفس" نشرت عام 1649.

سافر إلى السويد بدعوة من الملكة كرستين ليلقنها بنفسه فلسفته ولم يكن الجو هناك يلائم صحته. وكانت الملكة هناك قد حددت الساعة الخامسة صباحا وقتا للتحدث معه في الفلسفة وكانت تلك الساعة المبكرة شاقة جدا على الفيلسوف، فأصيب بالتهاب رئوي وتوفي صباح 11 شباط من عام 1650.

مختارات من مقالة في المنهج

القسم الأول: ملاحظات متعلقة بالعلوم

العقل أعدل الأشياء توزعاً بين الناس، لأن كل فرد يعتقد أنه قد أوتي منه الكفاية، ولأن الذين يصعب إرضاؤهم بأي شيء آخر ليس من عادتهم ان يرغبوا في أكثر مما أصابوا منه ليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، وإنما الراجح ان يكون هذا شاهداً على أن قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي القوة التي يطلق عليها في الحقيقة اسم العقل، أو النطق، واحدة بالفطرة عند جميع الناس. وهكذا، فان اختلاف آرائنا لا ينشأ عن كون بعضنا اعقل من بعض، بل ينشأ عن كوننا نوجّه أفكارنا في طرق مختلفة ولا نطالع الأشياء ذاتها. إذ لا يكفي ان يكون الفكر جيداً وإنما المهم ان يطبق تطبيقاً حسناً. ان اكبر النفوس مستعدة لأكبر الرذائل، كما هي مستعدة لأعظم الفضائل. وأولئك الذين لا يسيرون الا ببطء شديد، يستطيعون، إذا سلكوا الطريق المستقيم، أن يحرزوا تقدماً أكثر من الذين يركضون ولكنهم يبتعدون عنه.

أما أنا فإني لم أتوهم قطّ أن لي ذهناً أكمل من أذهان عامة الناس، بل كثيراً ما تمنيت ان يكون لي ما لبعض الناس من سرعة الفكر، أو وضوح التخيّل وتميّزه، أو سعة الذاكرة وحضورها. ولست اعرف مزايا غير هذه تعين على كمال النفس، لأني أميل إلى الاعتقاد أن العقل أو الحس، ما دام هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا بشراً، ويميزنا عن الحيوانات موجود بتمامه في كل واحد منا، متبعاً في ذلك الرأي الذائع بين الفلاسفة الذين يقولون انه لا زيادة ولا نقصان الا في الأعراض، لا في صور أفراد النوع الواحد، أو طبائعهم...

القسم الثاني: قواعد الطريقة

... لقد درست قليلاً، وأنا في سني الحداثة، من بين أقسام الفلسفة المنطق، ومن بين أقسام الرياضيات التحليل الهندسي والجبر، وهي ثلاثة فنون أو علوم خيّل إليَّ انها ستمدني بشيء من العون للوصول إلى مطلبي. ولكنني عندما اختبرتها تبيّن لي، فيما يتعلق بالمنطق، أن أقيسته وأكثر تعاليمه الأخرى لا تنفعنا في تعلّم الأمور بقدر ما تعيننا على ان نشرح لغيرنا من الناس ما نعرفه منها، أو هي كصناعة لول تعيننا على الكلام دون تفكير عن الأشياء التي نجهلها. ومع ان هذا العلم يشتمل في الحقيقية على كثير من القواعد الصحيحة والمفيدة، فان فيه أيضاً قواعد أخرى كثيرة ضارة وزائدة. وهي مختلطة بالأولى، بحيث يصعب فصلها عنها، كما يصعب استخراج تمثال ديانا أو مينيرفا من قطعة من المرمر لم تنحت بعد. ثم انه فيما يختص بتحليل بالقدماء، وبعلم الجبر عند المحدثين، ففضلاً عن انهما لا يشتملان الا على أمور مجردة جداً، وليس لها كما يبدو أي استعمال، فان الأول مقصور دائماً على ملاحظة الأشكال، لا يستطيع ان يمرن الذهن دون ان يتعب الخيال. اما الثاني فانه مقيد بقواعد وأرقام جعلت منه فناً مبهماً وغامضاً يشوش العقل، بدلاً من ان يكون علماً يثقفه. هذا ما حملني على التفكير في وجوب البحث عن طريقة أخرى تجمع بين مزايا هذه العلوم الثلاثة، وتكون خالية من عيوبها. وكما ان كثرة القوانين تهيئ في الأغلب سُبُل الرذيلة، بحيث تكون الدولة أحسن نظاماً عندما تكون قوانينها أقلّ عدداً، ويكون الناس أكثر مراعاة لها، فكذلك رأيت أنه، بدلاً من هذا العدد الكبير من القواعد التي يتألف منها المنطق، يمكنني أن أكتفي بالقواعد الأربع الآتية، شريطة أن اعزم عزماً صادقاً وثابتاً على ان لا أخل مرةً واحدةً بمراعاتها.

الأولى: ان لا أتلقى على الإطلاق شيئاً على انه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك، أي أن أُعْنى بتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة، وأن لا ادخل في أحكامي الا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز لا يكون لديّ معهما أي مجال لوضعه موضع الشكّ.

والثانية: أن أقسم كل واحدة من المعضلات التي ابحثها إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على أحسن وجه.

والثالث: ان أرتب أفكاري، فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفةوأتدرج في الصعود شيئاً فشيئاً حتى أصل إلى معرفة اكثر الأمور تركيباً، بل أن أفرض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضاً بالطبع.

والأخيرة: ان أقوم في جميع الأحوال بإحصاءات كاملة ومراجعات عامة تجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئاً.

ان هذه السلاسل الطويلة من الحجج البسيطةأفأأأ والسهلة، التي تعود علماء الهندسة استعمالها للوصول إلى أصعب براهينهم، أتاحت لي ان أتخيل ان جميع الأشياء، التي يمكن ان تقع في متناول المعرفة الإنسانية، تتعاقب على صورة واحدة، وانه إذا تحامى المرء ان يتلقى ما ليس منها بحق على أنه حق، وحافظ دائماً على الترتيب اللازم لاستنتاجها بعضها من بعض، فانه لا يجد بين تلك الأشياء بعيداً لا يمكن إدراكه ولا خفياً لا يستطاع كشفه. ولم أجد كبير عناء في البحث عن الأمور التي يجب الابتداء بها، لأنني كنت اعرف من قبل ان الابتداء يكون بأبسط الأمور وأسهلها معرفة. ولما رأيت ان بين الذين بحثوا من قبل عن الحقيقية في العلوم لم يستطيع أحد غير الرياضيين ان يهتدي إلى بعض البراهين، أي إلى بعض الحجج اليقينية والبديهية، لم اشك أبداً في ان ذلك لم يتيسر لهم الا بطريق الأمور التي عالجوها، ولم أؤمل منها أي فائدة أخرى سوى تعويد عقلي مؤالفة  الحقائق البديهية، ونبذ الحجج الباطلة. ولكن مطلوبي لم يكن قط من اجل ذلك ان أتعلم جميع  العلوم الخاصة التي يطلق عليها عامة اسم الرياضيات. لأني لما رأيت أنها، بالرغم من اختلاف موضوعاتها، متفقة جميعها في الاقتصار على البحث في النسب أو العلاقات الموجودة بينها، أدركت أنه من الخير لي أن اقتصر على النظر في هذه العلاقات عامة، دون افتراض وجودها الا في الموضوعات التي تعين على تسهيل معرفتي بها، ودون تقييدي بها البتة، حتى تزداد قدرتي فيما بعد على تطبيقها في جميع الموضوعات الأخرى التي توافقها. ثم إني لما تنبهت لتلك العلاقات، وتبين لي ان معرفتها تحتاج تارة إلى النظر في كل واحدة منها على حدة، وتحتاج تارة أخرى إلى الجمع بينها أو إلى النظر في كثير منها معاً، رأيت انه لإجادة النظر في كل واحدة منها على حدة يجب فرضها خطوطاً، لأن الخطوط ابسط الأشياء، وليس فيما يتصوره خيالي، وتدركه حواسي ما هو اكثر تميزاً منها، ولكن للجمع بينها أو للنظر في كثير منها معاص يجب التعبير عنها برموز هي في أقصى درجات الإيجاز. وبهذه الوسيلة أمكنني ان اقتبس من الجبر والتحليل الهندسي خير ما فيهما، وان أصحح عيوب كل منهما بالآخر

وإني لأجرؤ في الحقيقة على القول ان المراعاة الدقيقة لهذا العدد القليل من القواعد التي اخترتها سهلت عليَّ كثيراّ حلّ جميع المسائل التي يتناولها هذان العلمان بالبحث. حتى انني خلال شهرين أو ثلاثة قضيتها في امتحانها، مبتدئاَ بأبسط الأمور فأعمها، ومستعيناً بكل حقيقية وجدتها على كشف غيرها من الحقائق، لم انته إلى حلّ كثير من المسائل التي كنت احسبها من قبل صعبة فحسب، بل بدا لي أيضاً في النهاية انني أستطيع ان أعين بأي وسيلة وإلى أي حد يمكنني حلّ المسائل التي كنت أجهلها. وقد يظهر لكم اني غير عابث إذا لاحظتم انه ليس للشيء الواحد الا حقيقة واحدة، وان من يجدها يعلم عنها كل ما يستطاع علمه، وانه إذا تعلم طفل علم الحساب مثلاً وجمع بعض الأعداد بحسب قواعده، فانه يستطيع ان يثق بأنه وجد، فيما يختص بالمجموع الذي هو بصدده، كل ما يستطيع العقل البشري أن يجده. لان الطريقة التي تعلم المرء إتباع الترتيب الصحيح، والإحصاء الدقيق، لجميع ظروف الشيء المبحوث عنه، تشتمل على كل ما يهب اليقين لقواعد علم الحساب.

ولكن اعظم ما أرضاني من هذه الطريقة هو ثقتي معها باستعمال عقلي في كل شيء، ان لم يكن على الوجه الأكمل، فعلى احسن ما في استطاعتي على الأقل دع انني كنت أشعر وأنا أمارس هذه الطريقة بأن عقلي كان يتعود شيئاً فشيئاً تصور موضوعاته، تصوراً أشدّ وضوحاً، وأقوى تميزاً. ولما كنت لم اقصر هذه الطريقة على مادة خاصة، عللت نفسي بتطبيقها تطبيقاً مفيداً أيضاً في معضلات العلوم الأخرى، كما طبقتها في مسائل الجبر. ولست اعني بذلك انني أقدمت أولاً على امتحان كل ما يعرض لي من مسائل العلوم، لأن هذا نفسه مخالف للنظام الذي توجبه الطريقة، ولكنني لما لاحظت ان مبادئ هذه العلوم يجب ان تكون كلها مستمدة من الفلسفة التي لم اهتد فيها بعد إلى أي مبدأ يقيني، رأيت أنه يجب علي أولاً ان أحاول تقرير أصول يقينية في الفلسفة. ولما كان هذا الأمر أهم شيء في العالم، وكان التعجل والتشبث بالأحكام السابقة اعظم ما يجب ان يخشاه المرء، رأيت انه يجب علي ان لا أمضي فيه إلى نهايته ما لم أبلغ من العمر سناً انضج من الثالثة والعشرين التي بلغتها وقتئذ، وما لم أنفق أولاً كثيراً من الوقت في إعداد نفسي له، سواء أكان ذلك بأن أنزع من عقلي جميع الآراء الفاسدة التي تلقيتها من قبل، أم بأن أجمع تجارب كثيرة اجعلها فيما بعد مادة استدلالاتي، وأن أتمرن دائماً على الطريقة التي رسمتها لنفسي لها، حتى يزداد رسوخي فيها.

القسم الرابع: أسس علم ما بعد الطبيعة

لست أدري هل يجب علي ان أحدثكم عن التأملات الأولى التي تيسرت لي هناك، لأن في هذه التأملات من كثرة التجريد والبعد عن المألوف ما يجعلها غير موافقة لذوق جميع الناس. ومع ذلك فإني أجد نفسي بوجه ما مضطراً إلى التحدث عنها، حتى يُستطاع الحكم على الأسس التي اخترتها. هل هي ذات متانة كافية؟ لقد لاحظت منذ زمن ان المرء محتاج في بعض الأحيان، فيما يختص بالأخلاق، إلى الأخذ بآراء  يعلم انها غير يقينية، ولكنه يتبعها مع ذلك كما لو كانت يقينية، وقد سبق القول في ذلك. ولكن لما كنت إذ ذاك راغباً في التفرغ للبحث عن الحقيقة، رأيت أنه يجب علي ان افعل ضد ذلك تماماً، وان اعتبر كل ما أستطيع ان أتوهم فيه اقل شك باطلاً على الإطلاق، وذلك لأرى ان كان يبقى لديَّ بعد ذلك شيء خالص  من الشك تماماً. وهكذا فإني، لما رأيت ان حواسنا تخدعنا أحياناً، فرضت ان لا شيء هو في الواقع على الوجه الذي تُصورّه لنا الحواسّ. وكذلك لما وجدت أنَّ هناك رجالاً يخطئون  في استدلالاتهم، حتى في أبسط مسائل الهندسة، ويأتون  فيها بالمغالطات، واني كنت عرضة للزلل في ذلك كغيري من الناس، اعتبرت باطلاً كل استدلال كنت احسبه من قبل برهاناً صادقاً. وأخيراً، لما لاحظت ان جميع الأفكار، التي تعرض لنا في اليقظة، قد تتردد علينا في النوم، من دون ان يكون واحد منها صحيحاً، عزمت على ان أتظاهر بأن جميع الأمور التي دخلت عقلي لم تكن اصدق من ضلالات أحلامي. ولكني سرعان ما لاحظت، وأنا أحاول على هذا المنوال ان اعتقد بطلان كل شيء، انه يلزمني  ضرورةً، أنا صاحب هذا الاعتقاد، أن أكون شيئاً من الأشياء. ولما رأيت ان هذه الحقيقة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبيين، مهما يكن فيها من شطط، حكمت بأنني أستطيع مطمئناً ان اتخذها مبدأ أولاً فلسفة التي  كنت أبحث عنها.

ثم اني أنعمت النظر بانتباه في ما كنت عليه، فرأيت  أنني أستطيع ان أفرض انه ليس لي  أي جسم، وأنه ليس هناك أي عالم، ولا أي حيز أشغله، ولكنني لا أستطيع من اجل ذلك ان افرض انني غير موجود، لأن شكي في حقيقة الأشياء الأخرى يلزم عنه بضد ذلك، لزوماً بالغ البداهة واليقين، ان أكون موجودا، في حين أنني، لو وقفت عن التفكير، وكانت جيمع متخيلاتي الباقية حقاً، لما كان لي أي مسوغ للاعتقاد انني موجود. فعرفت من ذلك انني جوهر كل ماهيته أو طبيعته لا تقوم الا على الفكر، ولا يحتاج في وجوده إلى أي مكان، ولا يتعلق بأي  شيء مادي، بمعنى  ان "الأنا" أي النفس التي أنا بها ما أنا، متميزة تمام التميز عن الجسم، لا بل ان معرفتنا بها أسهل، ولو بطل وجود الجسم على الإطلاق لظلت النفس موجودةً بتمامها.

ثم إني نظرت بعد ذلك  بوجه عام فيما تطلبه القضية من شروط لتكون صحيحة ويقينية. ولما كنت قد وجدت قضية علمت انها موصوفة بهذه الصفة، رأيت انه يجب علي أيضاً  أن أعلم على أي شيء يقوم هذا اليقين. فلاحظت انه لا شيء في قولي: أنا أفكر، إذن أنا موجود، يضمن لي انني أقول الحقيقة، الا كوني أرى بكثير من الوضوح ان الوجود واجب للتفكير. فحكمت بأنني أستطيع أن اتخذ  لنفسي قاعدةً عامة، وهي ان الأشياء التي نتصورها تصوراً بالغ الوضوح والتميَّز هي كلّها صحيحة، إلا ان هناك صعوبة في بيان ما هي الأشياء التي نتصورها متميزة.

ثم اني فكرت بعد ذلك في شكوكي، فتبين لي منها ان وجودي ليس تام الكمال، لأنني كنت اعلم بوضوح أن المعرفة أكثر كمالاً من الشك، فلاح لي ان ابحث من أين تأتى لي أن أفكر في شيء اكمل مني، فعرفت بالبداهة ان ذلك يرجع إلى وجود طبيعة هي في الحقيقة أكمل. أما أفكاري الدالة على الأشياء الخارجية، مثل السماء، الأرض، والضوء، والحرارة، وألف شيء آخر، فاني لم أجد كبير عناء في معرفة من أين كانت تجيئني؛ لأني، لما لاحظت ان لا شيء فيها يجعلها أسمى مرتبة مني، استطعت ان اعتقد أنها إذا كانت حقيقية، فهي من لواحق طبيعتي، من حيث أن هذه الطبيعة تشتمل على شيء من الكمال، وأنها إن لم تكن حقيقية، كانت مستمدة من العدم، أي حاصلة لي من جهة ما في طبيعتي من نقص. ولكن الأمر لا يمكن ان يكون على هذا النحو فيما يختص بفكرة موجود أكمل من وجودي، لأن استمداد هذه الفكرة من العدم أمر ظاهر الاستحالة، ولأن قولنا: ان الأكمل لاحق وتابع لما هو أدنى كمالاً، ليس اقل شناعة من قولنا: ان الشيء يحدث من لا شيء. وإذن أنا لا أستطيع أبدا أن أستمد هذه الفكرة من نفسي، فبقي أنها ألقيت إلي من طبيعة هي في الحقيقة أكمل مني، لا بل من طبيعة لها بذاتها جميع الكمالات التي أستطيع ان أتصورها. وإذا أردت الإبانة عن رأيي بكلمة واحدة قلت: إن المراد بهذه الطبيعة هو الله. ثم أضفت إلى ذلك:  لما رأيت ان هناك كمالات ليس لي  منها شيء عَلِمْتُ انني لست الكائن الوحيد الذي في الوجود (واسمحوا لي هنا ان استعمل ألفاظ الفلسفة المدرسية)، وإنما يجب بالضرورة ان  يكون هناك موجود أكثر مني كمالاً، أنا تابع له، وجميع الكمالات التي فيّ مستمدة منه، لأنني لو كنت وحيداً ومستقلاً عن كل كائن آخر، وكان هذا القليل من الكمال الذي أشارك فيه الموجود الكامل مستمداً من نفسي وحدها، لكنت أستطيع ان أحصل من نفسي، وللسبب ذاته، على جميع الكمالات التي أعرف انها تنقصني، ولكنت اجعل نفسي كذلك لا متناهياً، أزلياً، أبدياً، ثابتاً، عالماً بكل شيء، حاصلاً في النهاية على جميع الكمالات التي أستطيع ان أتصور وجودها في الله وينتج من هذه الاستدلالات التي أوردتها انه، لمعرفة طبيعة الله على قدر ما تستطيعه طبيعتي، لم يكن علي الا ان أتأمل جميع الأشياء التي وجدت صورها في نفسي، هل في امتلاكها كمال أم لا. ولقد كنت متيقناً ان أية فكرة من الفكر المشتملة على النقص لا وجود لها في الله، ولكن جميع الفكر الأخرى ثابتة له. وكذلك رأيت أن الشك، والتقلب، والحزن، وما شابه ذلك من الأمور لا يمكن ان تنسب إليه، لأنني كنت أنا نفسي أرتاح إلى سلامتي منها. ثم انه  كان في نفسي، عدا ذلك، صور لكثير من الأشياء الحسية والجسمية. لأنني، وان فرضت انني كنت حالماً، وان ما أراه أتخيله كان باطلاً، إلا انني لا أستطيع ان أنكر مع ذلك ان صور ما أراه وأتخيله موجود في ذهني. ولكن لما كنت قد عرفت سابقاً معرفة واضحة ان الطبيعة العاقلة فيّ متميزة عن الطبيعة الجسمية، وان كل تركيب يدل على تعلق الشيء بالشيء، وان التعلق نفسه نقص ظاهر، استنتجت من ذلك انه ليس من الكمال ان يكون الله مؤلفاً من هاتين الطبيعتين، وأنه لا يمكن بالتالي ان يكون الله مركباً. وإذا كان في العالم أجسام، أو عقول، أو طبائع أخرى غير تامة الكمال، فان وجودها يجب ان يكون متعلقاً بقدرته، بحيث لا تستطيع البقاء دونه لحظة واحدة.

ثم اني أردت بعد ذلك ان ابحث عن حقائق أخرى، فاخترت الموضوع الذي يبحث فيه علماء الهندسة. وهو، كما أتصوره، جسم متصل، أو مكان لا حدّ لامتداده في الطول، والعرض، والارتفاع، أو العمق يقبل الانقسام إلى أجزاء مختلفة، ذات أشكال وحجوم مختلفة، وتُحرَّك أو تُبَّدلعلى جميع الوجوه، (لأن علماء الهندسة يفرضون ذلك كله في موضوع علمهم). وتصفحت بعض براهينهم البسيطة، ففطنت إلى ان هذا اليقين العظيم الذي يعزوه الناس إليها إنما هو مبني على كون تصورها بديهياً تبعاً للقاعدة التي ذكرتها سابقاً، ثم فطنتُ أيضاً إلى انه لا شيء في هذه البراهين يجعلني على يقين بوجود موضوعاتها خارج الذهن. مثال ذلك:  كنت أرى جيدا انني إذا فرضت مثلثاً لزم من ذلك أن تكون زواياه الثلاث مساوية لزاويتين قائمتين، ولكني لم أجد في ذلك ما يجعلني على يقين بأن في العالم مثلثاً ما؛ في حين انني إذا رجعت إلى امتحان معنى الموجود الكامل الذي أتصوره، وجدت انه يتضمن الوجود على نحو ما يتضمن معنى المثلث ان زواياه الثلاث مساوية لزاويتين قائمتين، أو كما يدخل في معنى الكرة ان جميع أقسام سطحها متساوية البعد عن مركزها، بل هو أكثر من هذين الأمرين بداهة. ويلزم عن ذلك ان وجود الله، الذي هو ذلك الكائن الكامل، لا يقل يقيناً عن أي برهان من براهين الهندسة.

ولكن السبب في اعتقاد الكثيرين أن هناك صعوبة في معرفة الله بل في معرفة ما هي النفس أيضاً، يرجع إلى انهم لا يرفعون عقولهم أبدا إلى ما وراء الأشياء الحسية، وانهم تعودوا الا يفكروا في شيء الا إذا تخيلوه (وهذه طريقة تفكير خاصة بالأشياء المادية) حتى ان كل ما لا يمكن تخيله يبدو لهم غير معقول . وهذا ظاهر في اتخاذ الفلاسفة قاعدة لهم في المدارس: ان لا شيء في العقل لم يكن أولاً في الحس. وانه لمن المتيقن مع ذلك  ان معنى الإله ومعنى النفس لم يكونا قط في الحس. ويبدو لي ان الذين يريدون ان يستعينوا بخيالهم على تفهّم هذين المعنيين يفعلون كما لو أنهم أرادوا الاستعانة بعيونهم على سماع الأصوات، أو شم الروائح. الا ان هناك فرقاً بين الأمرين، وهو ان توكيد حاسة البصر لحقيقة مدركاتها لا يقل عن فعل حاسة الشم أو السمع، في حين ان قوتنا المتخيلة وحواسنا لا تستطيع أن تؤكد لنا شيئاً الا إذا تدخل عقلنا فيه.

وأخيراً، إذا كان هناك أناس لم يقتنعوا بعد اقتناعاً كافياً بوجود الله، ووجود النفس، بالحجج التي أوردتها، فاني أريد ان يعلموا جيداً ان جميع الأشياء، التي يظنون انهم اكثر وثوقاً بها، مثل ان لهم جسماً، وان هناك كواكباً وأرضاً، وما شابه ذلك، إنما هي اقل ثبوتاً. ومع انه قد يكون للمرء ثقة عملية بهذه الأشياء يبدو معها انه لا يمكنه الشك فيها الا إذا شطّ في حكمه، وابتعد عن المألوف، فانه، فيما يتعلق باليقين الفلسفي، لا يستطيع، اللهم الا إذا حرم العقل، ان ينكر انه يكفي  لنفي اليقين التام ان يلاحظ الإنسان انه يستطيع بالطريقة نفسها أن يتخيل، وهو نائم، ان له جسماً آخر، وانه يبصر كواكباً وأرضاً أخرى، دون وجود شيء من ذلك هناك. لأنه من أين للمرء ان يعلم ان الأفكار التي ترد عليه في النوم اقرب إلى الكذب من غيرها، ما دامت لا تقل عن غيرها قوة ووضوحاً. ولو ان أفضل العقول بحثت في ذلك ما شاءت، لما استطاعت، فيما اعتقد، ان تأتي بأية حجة لرفع هذا الشك، ما لم تقدم على ذلك فرض وجود الله. أولاً، لأن الأمر الذي اتخذته من قبل قاعدة، وهو ان الأشياء التي نتصورها تصوراً بالغ الوضوح والتميز صحيحة كلها، لم أتيقنه هذا اليقين إلا لأن الله كائن أو موجود، وانه موجود كامل، وان كل ما فينا يصدر عنه]. ينتج من ذلك أن أفكارنا وتصوراتنا، لما كانت أشياء حقيقية صادرة عن الله، فهي، بما هي واضحة ومميزة، لا يمكن أن تكون صحيحة، بحيث انه إذا كان لدينا في الغالب أفكار كاذبة، فان هذا الكذب لا يكون الا فيما كان منها محتوياً على غموض والتباس، لأنها في ذلك تشارك العدم، أعني انها ليست على هذا النحو من الغموض الا لأن كمالنا ليس تماماً. وبديهي ان الشناعة في قولنا ان الباطل أو الناقص من حيث هو كذلك يصدر عن الله، ليس اقل من الشناعة في قولنا: ان الحق أو الكمال يصدر عن العدم، ولكننا إذا كنا لا نعلم أبداً ان كل ما فينا من وجود وحق إنما يأتي من موجود كامل وغير متناه، فمهما تكن أفكارنا واضحة ومميزة فانه لا يمكن ان يكون لدينا أي دليل يثبت لنا انها يمكن ان تتصف بكمال الحقيقة.

وعلى ذلك فانه من السهل علينا جداً، بعد ان جعلتنا معرفة الله والنفس على يقين من هذه القاعدة، ان نعرف ان الأحلام التي نتخيلها في النوم لا تحملنا أبدا على الشك في صدق الأفكار التي تحصل لنا في اليقظة. لأنه إذا اتفق للمرء، حتى في النوم، ان يتصور فكرة جد متميزة، كأن يكشف أحد علماء الهندسة برهاناً جديداً، فان نومه لا يمنع هذا البرهان من ان يكون صحيحاً. اما الخطأ العادي في أحلامنا، وهو يقوم على ان الأحلام تصور لنا أموراً مختلفة على النحو الذي تفعله حواسنا الظاهرة، فليس مهماً ان يكون هذا الخطأ باعثاً على الارتياب في صدق مثل هذه الأفكار، لأنها تستطيع أيضاً ان تخدعنا  في كثير من الأحيان من دون ان نكون نياماً، كمثل المصابين بمرض اليرقان، فهم يرون كل شيء أصفر اللون، أو كمثل الكواكب والأجسام البعيدة جداً، فهي تظهر لنا أصغر بكثير مما هي عليه. وأخيراً سواء أكنا أيقاظاً أم نياماً، فانه ينبغي لنا أن لا نقتنع الا ببداهة عقولنا. وليلاحظ انني أقول هنا عقولنا لا خيالنا وحواسنا. ومن قبيل هذا أيضا يجب علينا، إذا رأينا الشمس في وضوح تام، ان لا نحكم من اجل ذلك بأن حجمها ليس الا بالمقدار الذي نراها فيه. ويمكننا ان نتخيل في تميز تام رأس أسد مركباً على جسم عنزة من دون ان يلزمنا ان نستنتج من اجل ذلك ان في العالم وحشاً وهمياً كهذا. لأن العقل لا يملي علينا ان يكون ما نراه أو نتخيله على هذا الوجه حقيقياً، ولكنه يملي علينا أن أفكارنا وتصوراتنا يجب ان يكون لها أساس من الحقيقة، ولولا ذلك لما كان من الممكن أن يضع الله فينا هذه الأفكار والتصورات، وهو كمال كله، حق كله، ولما كانت استدلالاتنا في النوم ليست بديهية وتامة كما هي عليه في اليقظة، وكان لتخيلاتنا من القوة أو الوضوح في النوم ما لها في اليقظة أو اكثر، فان العقل ليملي علينا أيضا ان أفكارنا ما دامت لا تستطيع ان تكون كلها صحيحة، لعدم اتصافنا بالكمال، فان ما فيها من حق يجب ان يوجد حتماً في التي تحصل لنا في اليقظة لا في الأحلام

ديكارت: مختارات من "تأملات في الفلسفة الاولى"

التأمل الأول: في الأشياء التي يمكن ان توضع موضع الشك

1.  ينبغي لنا، كي نقيم العلوم على قواعد ثابتة، ان نرفض كل آرائنا القديمة، مرة في حياتنا.

تبين لي، منذ حين، انني تلقيت، إذ كنت ناعم الأظفار، طائفة من الآراء الخاطئة ظننتها صحيحة. ثم وضح لي ان ما نبنيه بعد ذلك على مبادئ، تلك حالها من الاضطراب، لا يمكن ان يكون الا أمراً يشك فيه، كثيراً ويرتاب منه. لهذا قررت ان أحرر نفسي، جدياً، مرة في حياتي، من جميع الآراء التي آمنت بها قبلاً، وان ابتدئ الأشياء من أسس جديدة، إذا كنت أريد ان أقيم في العلوم قواعد وطيدة، ثابتة مستقرة. غير ان المشروع بدا لي ضخماً للغاية، فتريثت حتى أدرك سناً لا سن أخرى، بعدها، آمل ان أكون فيها اصلح نضجاً لتنفيذه. من اجل هذا أرجأته مدة طويلة. اما اليوم فقد غدوت اعتقد انني أخطئ إذا ترددت أيضاً، دون ان اعمل في ما بقي لي من العمل.

2. لا داعي لامتحان كل الآراء القديمة بالتفصيل. يكفي ان نعالج أهمها.

الآن، وقد تخلصت من كل شاغل، وظفرت براحة مضمونة في عزلة مطمئنة، فانني أجدني حراً في تقويض جميع آرائي القديمة، وليس بواجب، كي أدرك هذه الغاية، ان أبين زيفها كلها فقد لا انتهي منه أبداً. وإنما يكفي، لرفضها كلها، ان أجد لها سبباً للشك فيها. إذ ان العقل يريني انه ينبغي لي الا أكون اقل رفضاً للأمور التي لم تبلغ مرتبة اليقين التام، مني للأمور الفاسدة حقاً.

3. في ان هذه المبادئ هي الحواس، التي لا يمكن ان يوثق بها، لأنها خدّاعة.

كل ما تلقيته، حتى الآن، على انه اصدق الأمور وأوثقها، قد اكتسبته بالحواس، أو عن طريق الحواس. غير اني وجدت الحواس خدّاعة في بعض الأوقات، ومن الحكمة الا نطمئن أبدا كل الاطمئنان إلى من يخدعنا، ولو مرة واحدة.

4. يبدو لنا انه يستحيل على حواسنا ان تخدعنا في بعض الأمور.

ولئن كانت الحواس تخدعنا، بعض الأحيان، في أشياء صغيرة جداً وبعيدة عن متناولنا، فهناك أشياء كثيرة أخرى لا يُعقل ان نشك فيها، وان كنا نعرفها بطريق الحواس. مثال ذلك، ان ألبس عباءة المنزل، فاجلس هنا قرب النار، وقد مسكت بين يدي تلك الورقة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. كيف أستطيع ان أنكر هاتين اليدين وهما يداي، وذلك الجسم وهو جسمي، اللهم الا إذا أصبحت كبعض المخبولين، الذين اختلت أذهانهم، وغُشى عليها بالأبخرة السود الصاعدة من الصفراء. هؤلاء لا ينفكون يؤكدون انهم ملوك، في حين انهم فقراء جداً. ولا ينفكون يؤكدون انهم يلبسون ثياباً موشاة بالذهب والأرجوان، في حين انهم عراة جداً. ولا ينفكون يتخيلون انهم جرار، أو ان لهم أجساماً من زجاج. هؤلاء مجانين. ولن أكون اقل شططاً منهم إذا نسجت على منوالهم.

5. الا اننا قليلو الثقة بها، مما يجعلنا غير قادرين على التمييز، حتى بين اليقظة والحلم.

لكن يترتب علي، في هذا المكان، ان آخذ بعين الاعتبار انني إنسان، من عادتي ان أنام، وان أرى في أحلامي الأشياء ذاتها، التي يراها هؤلاء المخبولون في يقظتهم، أو أشياء هي ابعد منها عن الواقع. فكم مرة حلمت اني جالس قرب النار ههنا، وقد لبست ثيابي، مع اني في سريري متجرد من كل ثوب. وهكذا لا يبدو لي، في الحلم، اني لا انظر إلى هذه الورقة، بعينين نائمتين، ولا ان هذا الرأس الذي أهز هو رأس ناعس. بالعكس، يبدو لي انني ابسط يدي واشعر بها عن قصد وتصميم. ان ما يقع في الحلم هو أيضاً ليس بالواضح المتميز. إذ كثيراً ما أتذكر، وقد أطلت النظر في الأمر، اني انخدعت في الحلم بمثل هذه الرؤى. لذا أرى بغاية الجلاء، حين أقف عند هذه الفكرة، انه لا يوجد علامات قاطعة، ولا إمارات يقينية كفاية، نستطيع بها ان نميز بين اليقظة والحلم، تمييزاً دقيقاً. وعليه فذهولي عظيم حتى يكاد يقنعني باني نائم.

6.  ان الأمور التي نتمثلها في الحلم ليست متخيلة كل التخيل.

لنفرض الآن، إذن، اننا نائمون، وأن جميع هذه الخصائص، من فتح العينين، وهز الرأس، وبسط اليدين، وما شابه، ان هي الا رؤى كاذبة. ولنفرض ان أيدينا، وجسمنا كله، قد لا يكون على نحو ما نراه. ولكن ينبغي التسليم، على الأقل، بان الأشياء التي نتمثلها في الحلم هي بمثابة لوحات وصور، لا يُستطاع تكوينها الا على غرار شيء واقعي حقيقي. وهكذا، على الأقل، لا تكون هذه الأشياء العامة (كالعينين، والرأس، واليدين، وكل باقي الجسم) أشياء متخيلة، لكنها أشياء واقعية موجودة. إذ المصورون، وان بذلوا ما أوتوا من قدرة على تمثيل بنات البحر والتيوس الآدمية في أشكال غريبة جداً، وبعيدة عن المألوف، لا يستطيعون رغم ذلك ان يضفوا عليها أشكالاً وطبائع جديدة كل الجدة. وإنما الذي يصنعونه هو مزيج وتأليف من أعضاء مختلف الحيوانات. وإذا جمح الخيال عندهم، فابتدعوا شيئاً يبلغ مرتبة من الجدة، لا يرى أحد قط له مثيلاً، فان عملهم يكون شيئاً مختلقاً بالأساس، وزائفاً كل الزيف. يبقى، على الأقل، ان الألوان التي يؤلفونها منها، لا بد لها من ان تكون حقيقية.

7.  يبدو ان صورته عن الأشياء تتركب من الأفكار التي لدينا عن أشياء أخرى ابسط، هي موجودة حقاً.

ومع ان هذه الأشياء العامة (اعني الجسم، والعينين، والرأس، واليدين، وما شابه) هي أشياء خيالية، فمن الواجب ان نعترف رغم ذلك، قياساً على ما تقدم، بوجود أشياء أخرى ابسط منها واشمل، هي موجودة حقاً. من امتزاجها، على نحو ما، تخرج بعض الألوان الحقيقية، فيتكون كل ما يقوم لدى فكرنا من صور الأشياء، سواء كانت هذه الصور حقيقية واقعية، أو مختلقة وهمية. من هذه الأشياء المتمددة وكمها أو مقدارها، وعددها. وكذا الحيز الذي هي فيه، والزمان الذي تدوم به، وما شابه.

8. ان العلوم، التي تدور على هذه الأشياء، تضم حقائق يظهر انه لا يمكن الشك فيها.

لعلنا غير مخطئين، إذن، في الاستنتاج ان علوم الطبيعة، والفلك، والطب، وسائر العلوم الأخرى، التي تدور على الأشياء المركبة، هي عرضة لشك قوي. ان الثقة بها قليلة. اما الحساب، والهندسة، وما شاكلهما من العلوم، التي لا تنظر الا في أمور بسيطة جداً، وعامة جداً، دون اهتمام كثير بمبلغ تحقيق هذه الأمور في الخارج، أو عدم تحقيقها، فهي تحتوي على شيء يقيني، لا سبيل إلى الشك فيه. فسواء كنت يقظاً أو نائماً، هنالك حقيقة ثابتة، وهي ان مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائماً، وان المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبداً. ان حقائق قد بلغت هذه المرتبة من الوضوح، لا يمكن ان تكون موضع خطأ، أو عدم يقين.

9. في الأسباب التي تدفعنا رغم هذا إلى الريبة من حقيقة تلك الأشياء.

مع ذلك فقد رسخ في ذهني، منذ زمن طويل، معتقد فحواه ان هنالك إلهاً قادراً على كل شيء، هو الذي خلقني وصنعني على نحو ما أنا موجود. فما يدريني؟ لعله قضى ان لا يكون هناك ارض، ولا سماء، ولا جسم ممتد، ولا شكل، ولا مقدار، ولا حيز، ودبر مع ذلك ان أحس بهذه الأشياء، جميعاً، فتبدو لي كائنة على غرار ما أراها؟ ثم لما كنت أرى، أحياناً، كيف ان الآخرين يغلطون في الأمور، التي يحسبون انهم اعلم الناس بها فما يدريني، لعله قدر لي ان اغلط، أنا أيضاً، كلما جمعت اثنين وثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما، أو أطلقت حكماً على شيء اسهل من ذلك، ان كان ثمة شيء اسهل؟ لكن اما قيل عن الله انه كريم رحيم؟ لعله لم يرد تضليلي على هذا النحو؟ فإذا كان مما يتنزه عنه الله ان يكون قد خلقني عرضة للخطأ، دائماً، فمما لا يليق بمقامه ان يأذن بوقوعي في الخطأ أحياناً. واني على يقين ان هذا لا يقع بإذنه.

10. إذن لا يوجد شيء غير ممكن ان نشك فيه إلى حد ما.

قد نعثر على أناس يميلون إلى إنكار وجود اله ذي قدرة كهذه القدرة، اكثر مما يميلون إلى الاعتقاد بان كل الأشياء الباقية هي عارية من اليقين. لا نريد الآن ان نعارض هذا الرأي. لنقف بجانبهم مسلّمين معهم ان الذي قيل هنا عن اله ما هو الا حديث خرافة. ولكن، مهما تكن الوجوه التي يعتمدون عليها، لتفسير ما وصلتُ إليه من حال وكيان (سواء أعادوهما إلى القضاء والقدر، أو عزوهما إلى المصادفة، أو أرجعوهما إلى سلسلة من العلل والمعلولات، أو إلى أي سبب آخر) فان قدرة الصانع، الذي يجعلونه علة لوجودي تنقص، ما دام الخطأ والضلال نوعاً من أنواع النقص، بقدر ما انقص أنا فأتعرض للضلال دائماً. ليس عندي ما أجيب عن حججهم. الا انه لا مناص لي من الاعتراف بان كل الآراء التي حسبتها من قبل حقاً، أستطيع ان أشك فيها بطريقة ما. يمكنني الآن، ان ارتاب من أي رأي، لا بطيش ورعونة، وإنما بفضل أدلة ناضجة قوية جداً. لذا ينبغي لي، إذا أردت الاهتداء إلى أمر ثابت أكيد في العلوم، ان امتنع عن تصديق ما يمكن الشك فيه، امتناعي عن تصديق ما يتضح فيه الخطأ اتضاحاً شديداً.

11. في انه لا يكفي ان نبدي هذه الملاحظات، وإنما يجب حفرها في أعماق أذهاننا.

ذلك لان الفائدة لا تأتي فقط من اعتبار آرائنا القديمة قابلة للشك، بل أيضاً من افتراضها خاطئة. لا خطر ولا ضلال في إتباع هذا المسلك.

ولكن لا يكفي ان ابدي هذه الملاحظات، بل ينبغي لي أيضاً ان أوطدها في ذاكرتي، لأن الآراء القديمة، المألوفة، تعاودني بين الفينة والفنية. ان طول ألفها لي جعلها تشغل ذهني قسراً، وتتحكم تقريباً بمعتقدي. الا انني سأحترمها ... ما دمت أراها في واقعها، اعني في انها مدعاة للشك، من بعض الوجوه، كما ابنته الآن. مع ذلك هي محتملة كثيراً، مما يجعل التصديق بها أصوب من إنكارها. لذا أكون حكيماً إذا تعمدت موقفاً معاكساً، فاكذب نفسي، إذ افترض إلى حين ان جميع الآراء باطلة خيالية، ريثما يتيسر لي ان أوازن بين القديمة والجديدة. وهكذا لا يميل رأي إلى جانب دون جانب، ولا تسيطر التقاليد الخاطئة على حكمي، فيشتط عن الطريق المستقيم، الذي يقدر ان يرشدني إلى معرفة الحقيقية. أنا واثق انه لا خطر في إتباع هذا المسلك، ولا ضلال. مهما أبالغ في الحذر فلن أكون مسرفاً، لأن مطلبي الآن ليس العمل وإنما التأمل والمعرفة.

12. ما هي الافتراضات، التي يجب ان نفترضها، وكيف ينبغي لنا ان نستخدمها.

سأفترض إذن ان لا إلهاً حقاً (الذي هو مصدر الحقيقة الأعلى) بل ان شيطاناً سيئاً، لا يقل خبثه ومكره عن بأسه، قد استعمل كل ما أوتي من حنكة لتضليلي. وسأفترض ان السماء، والهواء، والأرض، والألوان، والأشكال، والأصوات، وسائر الأشياء الخارجية التي نرى، ليست الا أوهاماً وخيالات، يلجأ إليها الشيطان كي يقنعني. وسأفترض اني خلو من العينين واليدين واللحم والدم والحواس، التي أتوهم خطأ اني املكها جميعاً. وسأتشبث بهذه الافتراضات التي، ان لم أتمكن بها من الوصول إلى معرفة أي حقيقة، تدفعني على الأقل ان أتوقف عن الحكم. لذا سأحذر كثيراً من التسليم بما هو باطل. سأواجه كل الحيل التي يعمد إليها ذلك المخادع الكبير، حتى لا يتمكن (مهما يكن بأسه ومكره) ان ينيخني لشيء أبداً.

13. في ان تحقيق هذا المطلب صعب للغاية.

لكن هذا المطلب شاق كثير العناء. وشيء من الكسل يجرفني، دون شعور مني، في سياق حياتي العادية. مثلي هنا مثل عبد يتلذذ في المنام بحرية موهومة. وإذ فطن إلى ان حريته ليست غير أضغاث أحلام، خاف ان يصحو من نومه، فطاب له ان يمالئ هذه الأوهام اللذيذة، ليطول أمد انخداعه بها. كذلك حالي: انجرف من تلقاء ذاتي، ودون وعي مني، في تيار آرائي القديمة، ولا أريد ان أصحو من غفوتي هذه، خشية ان أجد، بعد الراحة الهادئة، اليقظة الشاقة التي، بدل ان تجلب لي قليلاً من الوضوح والنور في معرفتي للحقيقة، تبان عاجزة عن تبديد كل ظلمات المصاعب الناشئة.

التأمل الثاني: في عناصر الأشياء المادية

1.  يجب أن نعيد فحص الأشياء التي يخامرنا أدنى شك فيها، إلى ان نعثر على شيء ثابت.

غمرني تأمل البارحة بفيض من الشكوك، لم يعد باستطاعتي ان أمحوها من نفسي، ولا ان أجد مع ذلك سبيلاً إلى حلها. كأني سقطت فجأة في ماء عميق للغاية، فهالني الأمر هولاً شديداً، حتى أنني لم اقدر على تثبيت قدمي في القاع، ولا على العوم لتمكين جسمي فوق سطح الماء. رغم هذا سأبذل طاقتي للمضي أيضاً في الطريق التي سلكتها البارحة، مبتعداً عن كل ما قد يكون لدي أدنى شك فيه، كما لو كنت على يقين من انه باطل جداً. سأتابع السير في هذه الطريق حتى اهتدي إلى شيء ثابت. فإذا لم يتيسر لي ذلك، علمت علماً أكيداً، على الأقل، انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.

2.  وانه لفوز كبير إذا استطعنا ان نعثر على شيء واحد.

وهل كان أرخميدس يطلب غير نقطة ثابتة، لا تتحرك، لينقل الكرة الأرضية من مكانها إلى مكان آخر؟ كذلك أنا فانه يحق لي ان أعلل النفس بأكثر الآمال، إذا أسعدني الحظ وعثرت على شيء ثابت، لا شك فيه.

3.  إذن ينبغي لنا ان نعتبر باطلاً كل ما عرفناه  عن طريق الحواس.

سأفترض، إذن، ان جميع الأشياء التي أرى، باطلة. وسأميل إلى الاعتقاد ان شيئاً لم يكن، قط، من كل ما تمثله لي ذاكرتي، المليئة بالأغاليط. سأحسب اني خلو من الحواس. سأحسب ان الجسم، والشكل، والامتداد، والحركة، والمكان، ان هي الا أوهام نفسي. إذن أي شيء يمكن أن يكون صحيحاً؟ لعل شيئاً واحداً، لا غير، هو انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.

4.  لا نستطيع، ونحن على هذا الشك في كل شيء، أن نشك في أننا موجودون. ان هذه الجملة "أنا موجود" هي حقة جبراً.

لكن، ما يدريني، لعل هناك شيئاً آخر لا نستطيع الشك فيه، وهو يختلف عن الأشياء، التي حكمت منذ قليل أنها غير ثابتة؟ الا يوجد إله ما، أو قوة أخرى توحي إلى نفسي هذه الخواطر؟ هذا الاعتقاد ليس واجباً. فقد أحدثت تلك الخواطر من تلقاء نفسي. إذن ألست أنا شيئاً على الأقل؟ لكنني أنكرت، فيما تقدم، ان يكون لي حس... ان يكون لي جسم. مع ذلك أنا متردد. إذ ماذا ينتج عن كل هذا؟ هل يبلغ ارتباطي بالجسم، والحواس، مبلغاً لم يعد بإمكاني ان أكون موجوداً، الا بالجسم والحواس؟ الا انني كنت قد اقتنعت، قبلاً، انه لا يوجد في العالم شيء، على الإطلاق، لا سماء، ولا أرض، ولا نفس، ولا أجسام، وبالتالي قد اقتنعت انني لست موجوداً كذلك؟ كلا. أنا موجود بلا ريب، لأنني اقتنعت، أو لأنني فكرت بشيء، ولكن، لا أدري، قد يكون هناك مُضِلٌّ شديد القوة، والمكر، يبذل كل مهاراته لتضليلي دائماً. إذن، ليس من شك في اني موجود، إذا أضلني. فليضلني ما يشاء. أنه عاجز، أبداً، عن ان يجعلني لا شيء، ما دمت أفكر انني شيء. من هنا ينبغي لي ان اخلص، وقد رويّت الفكر، وأمعنت النظر في جميع الأشياء، إلى ان هذه القضية "أنا كائن، أنا موجود" هي قضية صحيحة جبراً، في كل مرة انطق بها، أو وأتذهنها.

5. ما دمنا واثقين اننا موجودون، يترتب علينا ان نبحث أي شيء نحن.

الا انني لا أعرف، بوضوح كاف، أي شيء أنا، الذي ثبت عندي اني كائن. من اجل هذا يجب، منذ الآن، ان انتبه جيداً كي لا يشتبه الأمر علي، فآخذ شيئاً على انه أنا، وأضِلُ هكذا عن الصواب، حتى في تلك المعرفة التي أرى انها اكثر يقيناً، وبداهة، من كل معارفي السابقة.

6.  لذلك يحسن بنا ان نعيد النظر في ما كنا نعتقد به سابقاً.

لذلك سأعيد النظر الآن، من جديد، في ما كنت اعتقد به، قبل ان تخالجني هذه الخواطر الأخيرة. سأستبعد من آرائي القديمة، كل ما يمكن ان تزعزعه أسباب الشك، التي ذكرتها آنفاً، كي لا يبقى الا ما يقينه تام. فماذا كنت اعتقد؟ كنت اعتقد، صراحة، انني إنسان. ولكن ما هو الإنسان؟ هل أقول انه حيوان عاقل؟ كلا. إذ يضطرني هذا إلى ان ابحث، بعد ذلك، في ما هو الحيوان وما هو العاقل، فأنزلق هكذا من سؤال واحد إلى الخوض، بلا وعي، في أسئلة أخرى اشد صعوبة وتعقيداً. وأنا غير قادر على مضيعة ما لي من وقت وفراغ في محاولة الكشف عن مثل هذه الصعوبات. أؤثر ان انظر ههنا في الخواطر، التي ولدها ذهني، والتي استمدها من طبيعتي وحدها، حين عكفت على البحث في كياني. حسبت، أولاً، ان لي وجهاً، ويدين، وذراعين، وكل ذلك الجهاز المؤلف من لحم، وعظم، على نحو ما يبدو في جسم الإنسان، وهو الذي كنت أدل عليه باسم البدن. حسبت أيضاً انني أتغذى، وامشي، وأحس، وأفكر، ناسباً للنفس جميع هذه الأفعال.

وسواء بحثت مطولاً في ماهية النفس، أو لم ابحث، فقد كنت أتصورها شيئاً نادراً، ولطيفاً جداً، كريح، أو شعلة، أو نسيم رقيق للغاية، وقد اندس، وانتشر في اخشن أعضائي. أما الجسم فما شككت يوماً في طبيعته، بل كنت أظن اني اعرفه معرفة متميزة. ولو أردت شرحه، وفق المعاني التي كانت في ذهني، لشرحته على النحو التالي: الجسم هو كل ما يمكن ان يحده شكل. هو كل ما يمكن ان يتحيز فيحتويه مكان، مقصياً هكذا عنه مطلق جسم آخر. هو كل ما يمكن ان يحس، اما باللمس، أو البصر، أو السمع، أو الذوق. هو كل ما يحركه، في اتجاهات عديدة، شيء خارجي، يمسه، ثم يترك أثراً فيه. ذلك لأنني لن اعتقد يوما، ان القدرة على التحرك من الذات، وعلى الإحساس والتفكير من الذات، أمور تعود إلى طبيعة الجسم. بالعكس، لقد كان يدهشني ان أرى مثل هذه القوى حادثة في بعض الأجسام.

7. في اننا لسنا، من كل ما اعتقدناه قبلاً، سوى بالضبط شيء يفكر.

لكن أنا من أكون أنا، وقد افترضت الآن وجود من يبذل كل ما أوتي من قوة، ومهارة في سبيل تضليلي، وهو شديد السطوة، والمكر، والدهاء؟ هل أستطيع التأكيد انني أملك صفة واحدة، من جميع الصفات، التي نسبتها قبلاً لطبيعة الجسم؟ لقد فكرت ملياً في الأمر، أجلت ذهني حول هذه الصفات، مثنى، وثلاث، فلم أجد منها شيئاً، يصح القول بأنه من خصائص نفسي. إذن لا حاجة إلى تعدادها. ولننتقل إلى صفات النفس. ولنتساءل عما إذا كنت املك إحداها. أول ما أوردنا من هذه الصفات، هو التغذي والمشي. لكن، إذا صح ان لا جسم لي، صح ان لا تغذِ لي ولا مشي. ثم أوردنا صفة ثانية من صفات النفس، هي الإحساس. لكن، لا إحساس بدون جسم، وان اعتقدت فيما سلف انني أحسست، نائماً، بأشياء كثيرة. ألم يتبين لي، بعد اليقظة، انني لم أحس بها؟ ثم أوردنا صفة ثالثة، من صفات النفس، هي الفكر. هنا أجد ان الفكر صفة تخصني. هي وحدها لصيقة بي. أنا موجود. هذا أمر ثابت. لكن كم من الوقت؟ ما دمت أفكر. إذا انقطعت عن التفكير، انقطعت ربما عن الوجود، انقطاعاً خالصاً. اسلم الآن جبراً بشيء صحيح. أنا شيء يفكر... أي أنا روح، أو إدراك، أو عقل. وهي ألفاظ كنت اجهل معناها من قبل. فأنا، والحالة هذه، شيء صحيح وموجود حقاً. لكن أي شيء أنا هو؟ لقد قلته. انني شيء يفكر. وماذا بعد؟ هنا استحث خيالي، أيضاً، علني اعثر على ما هو اكثر من كائن يفكر. جلي اني لست تلك المجموعة من الأعضاء، التي سميت بدنا. ولست هواء رقيقاً، لطيفاً، منتشراً في جميع تلك الأعضاء. ولست ريحاً، ولا نسمة، ولا بخاراً ولا شيئاً من كل ما أستطيع ان أتخيل، وأتصور. ألم افترض أن كل ذلك ليس موجوداً؟ رغم صحة هذا الافتراض، ما زلت موقناً انني موجود.

8.  في ان كل ما ندركه بواسطة الخيال لا يخص تلك المعرفة التي لدينا عن ذاتنا.

لكن، ما يدريني، فقد تكون هذه الأشياء عينها (وأنا افترض انها غير موجودة لأنني أجهلها) غير مختلفة حقاً عن نفسي التي اعرف. لست ادري. ولا أجادل الآن في هذا. حسبي ان لا احكم الا على الأشياء التي اعرف. ولقد عرفت اني موجود. يبقى ان ابحث في الوجود، الذي هو وجودي، أنا العارف اني موجود. ومن الثابت ان معرفتي لذاتي، بمعناها ذلك، لا تعتمد على الأشياء التي لم أعرف وجودها بعد، ولا على أي شيء من الأشياء التي أستطيع ان تصورها بالمخيلة. ان في لفظتي التصور والتخيل، ما ينبهني إلى خطأي، لأنني أتوهم بالواقع حين أتخيل اني شيء، إذ التخيل تأمل في صورة، وان تلك الصور (وكل ما يتعلق عموماً بطبيعة الجسم) قد يكون أحلاماً وتخيلات. وهكذا يتبين لي، عندما أقول " سأستحث خيالي لأعرف ماهيّتي معرفة أوضح" انني لست اكثر صواباً مني عندما أقول "أنا الآن مستيقظ. واني أدرك بالبصر شيئاً واقعياً حقيقياً. ولما كنت لا أراه بعد، بوضوح كاف، فسأنام قصداً لتمثله لي أحلامي بمزيد من الوضوح والبداهة". إذن لا شيء من كل ما تستطيع مخيلتي ان تحيطني به، اعرفه كتلك المعرفة التي لدي عن نفسي. علينا، والحالة هذه، ان ننشط الذهن بصرفه عن هذا التصور، ليتمكن من ان يعرف طبيعته معرفة متميزة كل التميز.

9. في ما هو الشيء الذي يفكر.

إذن أي شيء أنا؟ أنا شيء يفكر. وما هو الشيء الذي يفكر؟ هو شيء يشك، ويتذهن، ويثبت، وينفي، ويريد، ويرفض، ويتخيل أيضاً، ويحس. حقاً ليس بالأمر القليل ان تكون كل هذه الأشياء من خصائص طبيعتي. ولكن لم لا تكون من خصائصها؟ الست أنا ذلك الشخص عينه، الذي يشك الآن في كل شيء، على وجه التقريب؟ وهو، مع هذا، يدرك بعض الأشياء، ويتذهنها، ويؤكد انها الصحيحة وحدها، وينكر سائر ما عداها، ويريد، ويرغب في ان يعرف غيرها، ويأبى ان يخدع، ويتخيل أشياء وأشياء، رغم إرادته أحياناً، ويتحسس الكثير منها أيضاً، بواسطة أعضاء الجسم؟ هل يوجد بين كل هذا ما يعادل في صحته اليقين بأني كائن موجود، على الدوام، حتى وان كنت نائماً، وكان الذي منحني الوجود يبذل وسع مهارته في سبيل تضليلي؟ وهل توجد صفة، من هذه الصفات، يمكن تمييزها من فكري، أو القول انها منفصلة عني؟ بديهي انني أنا هو الكائن الذي يشك وأنا هو الكائن الذي يدرك. وأنا هو الكائن الذي يرغب. لا حاجة إلى شيء آخر من اجل إيضاحه. لدي قدرة أيضاً على التخيل. هذه القدرة (وان كنت قد افترضت، سابقاً، ان كل الأشياء التي أتخيلها ليست حقيقية) لا تعرى عن الوجود في، كجزء دائم من فكري. وأخيراً، أنا هو الشخص عينه الذي يحس، أي الذي يدرك أشياء معينة بواسطة الحواس، ما دمت بالواقع أرى ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. إذا قيل ان هذه المظاهر زائفة، وانني أنام، أجبت بأنه ثابت (على الأقل عندي) اني أرى ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. هذا لا يمكن ان يخرج عن كونه تفكيراً. من هنا بدأت اعرف أي شيء أنا، بقدر من الوضوح والتمييز، يزيد قليلاُ عما كنت اعرف من قبل.

10. ما الذي يحدونا على الاعتقاد اننا نعرف الأشياء الجسمية اكثر مما نعرف هذا الشيء المفكر.

لكن لا بد لي أيضاَ من القول انني اعرف، معرفة متميزة، الأشياء الجسمية التي تتكون صورها بالفكر، وتقع تحت الحواس، اكثر مما اعرف ذلك الجزء من نفسي، الذي ادري ما هو، والذي لا يقع تحت الخيال. اجل، من الغرابة جداً ان اشك في وجود أشياء، هي ليست واضحة عندي ولا مختصة بي، ثم أقول اني اعرفها وافهمها، بشكل أوضح واسهل، مما أعرف وافهم الأشياء الحقيقية الثابتة، التي هي معروفة لدي ومختصة بي. الا ان الأمر قد انجلى في نظري. النفس يحلو لها ان تضل السبيل، لأنها تنفر من الانضباط في حدود الحقيقة. لنطلق لها العنان، إذن، مرة أخرى. ولنترك لها كل الحرية. ولنفسح لها مجال الإمعان في الأشياء الخارجية.

11. لننظر في معرفتنا الأشياء الحسية على ضوء مثل قطعة من الشمع.

لنبدأ الآن بالنظر في الأشياء العادية، التي تتراءى لنا معرفتها انها ايسر من غيرها، اعني الأجسام الملموسة المنظورة. ولا اقصد كل الأجسام. هذه المفاهيم العامة كثيراً ما تستبهم علينا. لنقتصر منها على جسم معين ننظر فيه. لنأخذ، مثلاً، هذه القطعة من الشمع، ولم يمض على استخراجها من القفير غير زمن قصير. هذه القطعة لم تفقد بعد حلاوة العسل الذي تحتويه. ولم تفقد كل أريج الزهور التي اقتطفت منها. فلونها، وحجمها، وشكلها، أشياء ظاهرة للعين. هي جامدة، باردة تتناول باليد. إذا نقرت عليها خرج منها صوت. وهكذا نجد فيها، جملة، جميع الأشياء التي تجعلنا نعرف بها الجسم معرفة متميزة.

12.  في ان كل ما نعتقد اننا نعرفه بتمييز في هذه القطعة من الشمع لا يقع تحت الحواس.

لكن، بينما أنا أتكلم، إذا بها توضع قرب النار، فيتطاير ما بقي من طمعها، وتتلاشى رائحتها، ويتغير لونها، ويذهب شكلها، ويزيد حجمها، إذ تصير من السوائل، وتسخن حتى يكاد لمسها يصعب، فلا ينبعث منها صوت، مهما تنقر عليها. أتزال الشمعة هي ذاتها بعد هذا التغيير؟ الحق انها باقية. ولا أحد يستطيع ان ينكر ذلك أو يحكم حكماً مخالفاً. إذن ما هو الشيء، الذي كنا نعرفه، في قطعة الشمع، معرفة متميزة؟ لا شيء، يقيناً، من كل ما لاحظته فيها، عن طريق الحواس، ما دام الذي وقع منها تحت حواس الذوق، أو الشم، أو البصر، أو اللمس، أو السمع، قد تغير كله، في حين ان الشمعة ذاتها باقية. قد يكون الأمر كما أراها الآن. اعني ان هذه الشمعة ليست تلك الحلاوة التي في العسل، ولا ذلك الأريج الزكي الذي يفوح من الأزهار، ولا ذلك البياض، ولا ذلك الشكل، ولا ذلك الصوت. وإنما هي جسم كان يلوح لي، منذ قليل، محسوساً به في هذه الصور، وهو الآن محسوس به في صور أخرى. ولكن ما هو، بالتدقيق، الشيء الذي أتخيله، حين اتذهن الشمعة على هذا النحو؟ فلننظر في الأمر بإمعان، ولنستبعد كل ما ليس من خواص الشمعة، كي نرى ما يتبقى بعد ذلك. الذي يتبقى منها حقاً هو شيء ممتد لين متحرك. ولكن ما معنى اللين والمتحرك؟ أليس معناه انني أتخيل قطعة الشمع المستديرة، قابلة لأن تصير مربعة أو مثلثة؟ الأمر ليس كذلك بته: لأن الشمعة قابلة لعدد لا يحصى من هذه التغييرات، التي لن أدركها بخيالي. وهو دليل إلى ان تذهني لها ليس ثمرة المخيلة.

13. في اننا نعرف، بالإدراك وحده إذن، ما هي هذه القطعة من الشمع.

فما هو ذلك الامتداد إذن؟ ألا أجهله أيضاً؟ انه يزيد فاكثر عندما ترتفع حرارتها. فأنا لا اتذهن، تذهناً واضحاً ومطابقاَ للحقيقة، ماهية الشمعة، إذا كنت لا افترض انها تأخذ، وفقاً للامتداد، أنحاء شتى لم تخطر قط بخيالي. إذن لا بد من القول بان خيالي عاجز عن ان يعرف ماهية هذه القطعة من الشمع. الذي يعرفها هو إدراكي وحده. أتحدث خاصة عن هذه القطعة من الشمع، إذ ان أمر الشمع بصورة عامة هو أيضاً اكثر بداهة. ولكن ما هي قطعة الشمع تلك، التي لا يمكن تذهنها الا بالإدراك أو بالروح؟ يقيناً انها ذاتها التي أراها، وألمسها، وأتخيلها، هي ذاتها التي عرفتها منذ البداية. غير ان ما يجب إيضاحه هو ان إدراكي إياها لم يعد إبصاراً، أو تلمساً، أو تخيلاً. هو ليس شيئاً من ذلك، مطلقاً، وان كان قد بدا انه كذلك من قبل. وإنما هو لمعة من لمعات الروح، قد تكون ناقصة ومبهمة كما بدت سابقاً، أو واضحة متميزة كما هي الآن، وفقاً لدرجة انتباهي إلى العناصر، التي تشتمل عليها الشمعة والتي تتألف منها.

14. لِمَ يصعب الإجماع على هذه الحقيقة؟

لا اعجب كثيراً حين ألاحظ ما في إدراكي من ضعف، وميل، يجعلانه عرضاً للخطأ، عن غير وعي. ذلك لأن الألفاظ تصدني، وان كنت أجيل هذا كله في ذهني، دون ان أتكلم. العبارات الجارية تكاد تخدعني. فنحن نقول بأننا "نرى" الشمعة ذاتها حين تكون أمامنا، ولا نقول بأن "نحكم" عليها هي عينها، لأن لها لون الشمعة ذاته وشكلها ذاته. لذا نكاد نستنتج اننا نعرف الشمعة بالعينين، لا بمعرفة الروح وحدها. لو نظرت مصادفة من النافذة، وشاهدت رجالاً يسيرون في الشارع، لقلت عند رؤيتي لهم اني أرى رجالاً بعينهم، كما أقول اني أرى شمعة بعينها. ولكن هل أرى بالواقع من النافذة قبعات، ومعاطف، قد تكون أغطية لآلات صناعية تحركها لوالب؟ مع ذلك احكم انهم ناس. إذن أنا أدرك، بمحض ما في ذهني من قوة الحكم، ما كنت احسب اني أراه بعيني.

15.  ... التي تثبت ان لنا روحاً؟

ينبغي لمن يحاول الارتفاع إلى معرفة، تجاوز مرتبة العامة، ان لا يلتمس في صيغ الكلام، التي ابتدعتها تلك العامة، الا مواطن شك. ولكن أؤثر ان اضرب صفحاً عن ذلك. الأفضل ان انظر هل كان تذهني لماهية الشمعة (حين أدركتها بالحس، وظننت اني اعرفها بطريق الحواس الخارجية، أو على الأقل بالحس المشترك، كما يقولون، أي بالمخيلة) هل كان تذهني اكثر بداهة وكمالاً من تذهني لها، الآن، بعد ان بذلت عناية اشد في البحث عن ماهيتها، وعن السبيل إلى معرفتها؟ من السخف،حقاً ان نضع هذا الأمر موضع الشك. إذ ماذا كان في إحساسي الأول من تمييز؟ ماذا كان فيه ما لا نستطيع ان نجده في حس اقل الحيوانات؟ لكن حين أميز الشمعة من صورها الخارجية، وأتأملها عارية، كما لو كنت قد جردت عنها ثيابها، فمن المحقق اني لا أتمكن، وان وقع بعض الخطأ في حكمي، ان اتذهنها على هذا النحو دون الاستناد إلى روح إنسانية.

16. في اننا نعرف هذه الروح اكثر مما نعرف أي شيء آخر.

لكن ما عساي أقول أخيراً عن هذا الذهن، أي عن ذاتي، ما دمت لا اسلم حتى الآن ان فيها شيئاً آخر غير الروح؟ اجل، ماذا تكون الأنا، التي تتذهن قطعة الشمع، بمثل هذا الوضوح والتمييز؟ إذا كنت احكم بأن الشمعة كائنة أو موجودة، لأنني أراها؟ قد لا يكون شمعاً هذا الذي أراه. وقد لا يكون بي عينان ابصر بهما شيئاً. لكن لا يمكنني، أنا الذي أفكر، ان لا أكون شيئاً، حين أرى أو أظن اني أرى (لا فرق). كذلك إذا حكمت بوجودها، عن طريق خيالي، أو أية علة أخرى، كائنة ما كانت، فأنا استنتج دائماً انني موجود. والذي أقوله عن الشمعة، الآن، يجري حكمه على كل الأشياء الخارجية، الواقعة خارج نفسي.

17. في ان الأشياء التي تتعلق بالجسم، أي الحسية جداً، لا تستحق ان يقام لها وزن.

فإذا كان مفهوم الشمعة، أو إحساسي بها، قد وضح اكثر من قبل، وانجلى، ليس فقط بفضل النظر، واللمس، وإنما بفضل أسباب عديدة أخرى، نقحت هذا المفهوم لدي، فكم ينبغي القول بالأحرى، انني اعرف ذاتي الآن معرفة اشد بداهة، ووضوحاً، وتميزاً، ما دامت كل الأسباب (التي تساعد على ان نعرف، ونتذهن، طبيعة الشمعة أو مطلق جسم آخر) تثبت لي اكثر أيضاً طبيعة روحي. وفي الذهن أشياء عديدة أخرى تسهم في إيضاح طبيعة الروح، عدا الأسباب المتعلقة بالجسم، كتلك التي أشرت إليها، والتي لا تستحق الذكر حتى.

18. إذن ليس أهون من ان نعرف ذواتنا.

وأخيراً هاأنذا أعود، من حيث لا اشعر، إلى ما كنت أريد. لقد تبين لي، الآن، ان الأجسام ذاتها لا تُعرف حقاً بالحواس، أو بالقوة المخيلة، وإنما بالإدراك وحده. هي لا تُعرف لأنها تُرى، وتُلمس، بل لأنها تُفهم، أو تُدرك بالذهن. وهكذا اتضح لي انه ما من شيء هو عندي أيسر وأجلى معرفة من نفسي. لكن ليس هيناً ان نتخلص، بمثل هذه السرعة، من رأي ألفناه طويلاً. لذا يجدر بي ان اقف وقفة قصيرة حول ذلك الموضوع، حتى أتمكن بالتأمل الممعن ان ارسخ، في ذاكرتي، هذه المعرفة الجديدة.

من التأمل الثالث: في العالم المرئي

17. في ان الفكر، الذي هو جوهر الذهن، يتميز حقاً من الجسم.

أولاً، لما كنت اعرف ان جميع الأشياء، التي اتذهنها بوضوح، وتمييز، يمكن لله ان يوجدها على نحو ما اتذهنها، فيكفي ان اتذهن شيئاً بدون شيء آخر، حتى أتأكد أن الشيئين متميزان أو متغايران. إذ من الممكن ان يوجدا منفصلين على الأقل بقدرة الله الواسعة. ولا أهمية لمعرفتي بأية قوة يحصل هذا الانفصال كي اضطر إلى الحكم عليهما بانهما متغايران. وإذا انطلقت من تأكيد معرفتي اني موجود، وان شيئاً آخر لا يخص طبيعتي، أو جوهري، سوى اني شيء يفكر، جبراً، استطعت القول بان جوهري محصور في اني شيء يفكر، أو اني جوهر كل ماهيته أو طبيعته ان يفكر، ليس إلا. وعلى الرغم من انه قد يكون، بل يجب، كما سأبينه، ان يكون لي جسم اتصلت به اتصالاً وثيقاً، فلدي فكرة واضحة متميزة عن نفسي، باعتبار اني لست إلا شيئاً مفكراً لا شيئا ممتداً، ولدي أيضا فكرة متميزة عن الجسم، باعتبار انه ليس الا شيئا ممتدا لا شيئاً مفكراً. لذا ثبت عندي ان هذه الأنا، أعني نفسي التي بها أكون أنا من أنا، تتميز عن جسمي تمييزاً تاماً حقيقياً. هي قادرة على ان تكون أو ان توجد بدونه.

18. كيف ان ملكتي الحس والتخيل تخصان الذهن.

فضلاً عن ذلك، أجد فيّ ملكتين من ملكات الفكر، خاصتين جداً، متميزتين عني، هما ملكة التخيل والحس، اللتان أستطيع بدونهما ان اتذهن نفسي، بتمامها، تذهناً واضحاً متميزاً، ولكني لا أستطيع ان اتذهنهما موجودتين بدوني، أي بدون جوهر عاقل يرتبطان به. لان المعنى، الذي لدينا عن هاتين الملكتين، أو (إذا جاز التعبير كما اصطلح المدرسيون) لأن مفهومهما الصوري يحتوي على شيء من التعقل. لذا اتذهنهما متميزتين عني، على غرار الأشكال، والحركات، وباقي الأحوال، والأعراض في الأجسام، متميزتين عن الأجسام ذاتها، والتي هي سند لها.

19.  ان ملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ أوضاع متنوعة، وملكات أخرى، تخص الجسم لا الذهن. وانه يوجد، خارج أنفسنا جوهر قادر على ان يولد فينا الأفكار عن الأشياء الحسية.

واجد فيّ أيضاً ملكات أخرى، كملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ أوضاع كثيرة، وما شابه ذلك من ملكات لا يمكن تذهنها، ولا تذهن الملكتين السابقتين، بدون جوهر ترتبطان به، أو تتواجدان بمعزل عنه. الا ان هذه الملكات، إذا صح كونها موجودة، ينبغي ارتباطها بجوهر جسماني، أو ممتد، لا بجوهر متذهَّن. لأن مفهومها الواضح المتميز ينطوي على نوع من الامتداد لا على تذهن. يضاف إلى ذلك ما في من ملكة حس منفعلة، أي من ملكة وظيفتها ان تتلقى، وتعي الأفكار عن الأشياء الحسية.

Publicité
Publicité
3 octobre 2007

chat

Publicité
Publicité
وجود الغير في فلسفة ديكارت، هو وجود غير ضروري بالنسبة لوجود الأنا ووعيه بذاته، إنه مجرد وجود افتراضي قابل للشك، محتمل وجائز.
Publicité
Publicité